2008/03/27

المغبوب ... ومفهوم السعادة ( وين حوش البوسعدية .. نموذجا )

علاقتى بالأديب محمد المغبوب موغلة فى القدم، فقد ترافقنا فى العمل فى فترة من فترات العمر الكئيبة، ثم تفرقت بنا السبل، فسار هو فى نهج ارتآه لنفسه وما زال، وسرت أنا فى النهج المقدر لى إلى أن أتانى هادم الوظيفة، التقاعد، فقوعدت لأمر فى نفس من بيدهم الحل والعقد، وكان ذلك خيرا لى، فقد تفرغت للقراءة والبحث . وأذكر أن الأديب محمد المغبوب كان معاندا فى فكره، ولا يقبل المساومة، بل كان لا يقبل حتى مجرد تعديل بعض الجمل أو الكلمات فى قصصه أو مقالاته، كان يؤكد دائما أن كلماته وجمله هم بمثابة أبنائه، فهو لا يمكن أن ينسلخ من جلده، ولا يقبل أن يئد أحد أبنائه على مرأى ومسمع منه، ولذلك كان كثيرا ما يعود أدراجه حاملا مشروع قصته أو مقاله إلى مكان آخر يمكن أن يجد فيه من يفهمه، ويفهم ما يختلج فى نفسه من أفكار . وكنت فى صيف عام 2003 إن لم تخنى الذاكرة، أتحاور مع الأديب محمد المغبوب فى ما أثر من قصص شعبية داخل منطقة سوق الجمعة، حيث كنت وقتها أعد كتابا عن " المكان "، وهو لم يكتمل بعد للأسف رغم انقضاء عشر سنوات على الشروع فيه، نظرا لعدد من الصعوبات ليس هذا مكان استعراضها . أهدانى محمد المغبوب قصته " وين حوش البوسعدية ؟ " مسجلة على اسطوانة مرنة " فلوبى "، وخلت أننى سأقرأ شيئا تراثيا عن البوسعدية . قرأت القصة مرة ... فلم أجد ما يشير من قريب أو بعيد إلى " البوسعدية " الذى أقصده والذي كان مثار الحديث بيننا، وبما أننى أفهم محمد المغبوب بطريقة مخالفة لما يفهمه به الآخرون، فقد عاودت قراءة القصة مرة أخرى على جهاز الحاسوب، ولم ترضنى هذه القراءة فنسخت ما قرأت على الورق، وبدأت فى تحليل الكلمات والجمل، فمحمد المغبوب يجب أن تقرأه على مهل، وأن ترفع الحروف والجمل لترى ما تحتها من عبارات . فيما أرى ، على رأيه، أن محمد المغبوب إختـار اسـم القصة ليجسد مفهوم " السعادة " لديه، فأبو سعدية، وهو ذلك الرجل الضخم عريض الأكتاف والجسم وصاحب الشفتين الغليظتين والأنف الأفطس المكون فتحتين كبيرتين، إنما يعنى به الزمن الذى لم يعد فيه مكان للسعادة التى ينشدها البشر، فكل شئ فى هذا الزمن يباعد بين الإنسان والسعادة، فكل مكونات الحياة تقف فى وجه الإنسان، تمنع عنه حتى بصيص من سعادة، رغم أن " السعادة " هى ابنة الزمن وليست ربيبته .كان أبو سعدية يتجول هو أيضا فى الطرقات باحثا عن " سعدية " بطريقته الخاصة، كان الناس يخالون أن يبحث عن لقيمات ترضى وحش الجوع القابع فى جوفه، لكن فى حقيقة الأمر أن أبو سعدية كان يبحث عن " سعدية " ابنته تلك التى ستمنحه الدفء ، والحنان والشبع والأمن من الخوف . وكانت " سعدية " بيت القصيد عند محمد المغبوب، وسعدية من " السعادة " كما نعرف، وقد صورها لنا فى قصته فتاة جميلة بكل المقاييس، جسد ملفوف، وصدر يكاد يقفز من مكانه، وعينان نجلاوان لهما سهام تصيب بها من ترضى عليه، إنها تأتيه فى أحلامه " ... وهم يذكرون اسم سعدية هذه التي تزورني في حلمي من منام إلى آخر، قد يتعثر طيفها في ظلمة الليل فلا تأتي، وربما نصب أحدهم لطيفها فخاً فأمالها إليه، ولعل الطريق أحب مناكفتها فأضاعها مني فتغيب عني لكنها كانت تأتي طيفاً جميلاً تسعد روحي، وتضيء عتمتي وتأنس وحشتي، وتمتع وقتي بعسل الكلام، وبحرير اللمس " ، أليست أركان السعادة مثلما الوصف المتقن الذى أبدعه المغبوب ؟ " ... سعدية التي يشع من عينيها نوراً، ومن جسدها تنثر عطراً يضوع في أرجاء نفسي تحدثني عني، وأنشد لها قصيدتي عنها ، ونحن نمسك خيوط الكلام الجميل، ونغزل منه بيتاً يضمنا، ويحجب أعين الحاسدين عنا فنظفر بوقت ليس ككل الأوقات " . من المؤكد أن " سعدية " عند المغبوب كانت تجسد رؤيته الفلسفية للسعادة، وهو كعادة الأدباء الذين يكتبون لمتلقى ذكى، يفهم ما يموج من أحداث تحت الكلمة أو الكلمات والجمل، المغبوب انتقى الكلمة من التراث، التقطها ببراعة ليذكرنا بأن القصص التراثية ليست شيئا للتسلية، أو لتزجية الوقت واستهلاكه، وليس كلاما مرصوصا فارغ المحتوى، بل إن كل كلمة فيه تعنى شيئا هاما جديرا بالتفكير، المغبوب فكر وقدر، فكانت " سعدية " هى محبوبته التى تأتيه فى الحلم، تداعبه، تستعرض عليه جمالها، وعندما يكاد يقترب من عسيلتها، تفـر منه، فيستيقـظ ولا يجد أمامه إلا " أبو سعدية "، وربما هذا هو واقع المغبوب فى حياته، الباحث دائما عن السعادة، بيد أنها لا تمسه إلى مسا رقيقا يكاد لا يحس به، وإن شعرت أنه أحس بها، فما أسرع أن تفر منه وإن كان فى الحلم، ولهذا نراه دائم التجوال رافعا تساؤله فى وجه كل من يلقاه : وين حوش البوسعدية ؟ ... ويجاب : ما زال القدام شوية ! وهذا مما يزيد من غيظه وحزنه، فلا يملك إلا أن يرفع لفافة التبغ ويمص منها رحيقا ساخنا تحرق كلمات الإجابة حرقا، فهو يتمنى حقا أن يجاب : وهذا حوش البوسعدية !، يسمع الجواب السلبى، يدير وجهه وتتحول ابتسامته إلى ضحكة فضفاضة، ثم يهيم على وجهه معاودا الترحال وللتجوال. يتألم محمد المغبوب كثيرا عندما يجاب بأن منزل " سعدية " مازال بعيدا، وعليه أن يجتاز الصعاب، بل وعليه أن يغمض عينيه عن أشياء كثيرة يغتاظ منها أو ينتقدها ليصل إلى بيت " سعدية "، فيبدو أن المغبوب لم يعد لديه وقت كاف يقضيه فى انتظار أن يصل إلى مبتغاه " بيت أبو سعدية " ليعب من فيض حنانها، وينهل من رحيقها، وما تضفيه عليه من السعادة . هو يجسد ذلك فيقول : " ... كلما توغلت أقدامنا تنهب الطريق، كلما أزداد حوش بوسعدية بعداً، وارتخت ألسنتنا في أفواهنا، وخارت قوانا " .لكن محمد المغبوب لا يقـف عنـد حـد السـؤال والإستفسار عن حوش " بوسعدية "، ذلك المكان الطوباوى الذى لا يستطيع أن يدركه أحد، بل يقف معاندا يسأل نفسه إذن لماذا هذا الإنقياد وراء القطيع الباحث عن " سعدية " مجهول مكان اقامتها ، على الأقل بالنسبة إليه : " ... سألتني نفسي لماذا تنقاد كشاة في قطيع إلى مكان تجهله بلعبة تردد السؤال كببغاء بلعبة تشارك فيها، ولا تدري ما إذا كنت الملعوب بك، أو أنك تلعب لصالح غيرك " .يدرك المغبوب أن الطريق إلى " السعادة " محفوفة بالمخاطر، وأن المسير إليها قد تكتنفه المصاعب، وأن العمر قد ينتهى ولا يصل إلى حبيبته " سعدية " وهو بهذا يؤمن ايمانا كاملا أن " السعادة " حلما قد لا يتحقق، وهو إن تحقق فبقدر يسير قد لا يدرك، وهنا مكمن الداء، فالسعادة حالة واحدة، إما أن تتحقق ككل أو لا تتحقق كلية، وهى بتلك الصورة كعقد منضود إذا انفرط تبعثرت حباته فى واد سحيق لا تدرك، وهو هنا يجسد لنا مسيرة الحياة فى فريق لعبة " وين حوش البوسعدية ؟ " ذلك الفريق الذى يظل يكدح ويجد للوصول إلى هدفه، لكن المغبوب يتأسف لفريق اللعبة الذى يدس رأس كل واحد منهم فى ظهر الآخر منتظرين اشارة دليلهم الذى يبدو أنه استمرأ اللعبة وظل يردد " ما زال القدم شوية ! " ، إني لأظنه يتساءل لماذا لا يبحث كل من لأعضاء الفريق عن " سعدية " دون أن يدس رأسه فى ظهر الذى قبله، وينظر إلى الكون بعينين مفتوحتين، وقلب تواق إليها، فلعله يعثر عليها، بل إنني أراه يتساءل لماذا لا يعمل الفريق كوحدة واحدة ويبحثون جميعا عن " سعدية " تلك التى ضيعوها فى وقت ما، وتركوا لدليلهم البحث عنها واستسلموا للخنوع والبقاء فى الظل. إن المغبوب يؤكد حالة الإنسان فى هذا الوقت، هذا الإنسان الذى أكلت أيامه الوظيفة وأتعب أطرافه طول التطواف عن الحبيبة المفقودة أو الغائبة أو المغيبة، فهو لم يطق صبرا أن يقول : " ... أتعبنا المسير، وأرهقنا السؤال بعد أن لفنا الظلام ولم نصل حوش بوسعدية، لم نهتد إليه منذ عشرات السنين ونحن داخل اللعبة وعلى شفاهنا السؤال، والذي يتقدمنا يردد الجواب نفسه في الطريق إليه، وسنوات البحث عنه شاهدنا الكثير من الأحداث، ووقعت أمامنا مصاعب عديدة أكلت من أجسادنا وتركت أثارها على وجوهنا وهي تتجعد، ويتناقص ماء الحياة في عروقنا ولجة العمر الرمادي ، وأخذت اقترب من القبر دون أن يفارقني الوهم الذي رسمه الذي يجيبنا عن سؤالنا – ويـن حوش البوسعدية ؟ " . يفاجئنا المغبوب فى نهاية القصة بنهاية مأساوية، فهو يفصح أن " سعدية " ما تزال بعيدة المنال، وهو هنا يؤكد حقيقة وهى أن " السعادة " غاية قد لا تدرك، بمعنى أنها دائما ما زالت القدام شوية ! ... يحكيها ويؤكدها لإبنه الذى يمارس هذه اللعبة مع أبناء جيله، وعندما يسأله عن حوش البوسعدية يجيبه بكل صراحة : ما زال القدام شوية، وحقا ما زالت " السعادة " القدام شوية، شبرا أم ذراعا، وربما حبلا، ولكننا على كل حال نقترب منها رويدا رويدا فهى حلم البشرية المقدس .
ـ الأديب : محمد عياد المغبوب، من مخواليد سوق الجمعة، كاتب وقصاص .

ليست هناك تعليقات: