2008/03/27

المكان والزمان ... فى أدب كامل المقهور

لا أذكر ـ فيما قرأت ـ أن كاتبا جسد حياة " الفلاحين " في " سوق الجمعة " أكثر من الأديب المرحوم " كامل حسن المقهور"، فقد جسدها في معظم كتاباته، كتب عن الناس وأحداثـهم اليومية، كتـب عن " الفلاحين " البسطاء بأسلوب بسيط، مثلما الناس في تلك المناطق، ولا عجب في ذلك، فكامل المقهور يعتبر إبنا للمنطقة بالرغم من أنه كان يقيم مع أسرته فى الضهرة، فعائلة والدته تقيم في " النوفليين / سوق الجمعة " الأخوال والخالات وأبناء أخواله، كلهم ما زالوا يقيمون في نفس المنطقة، وقد كان إرتباطه بإبن خاله " مصطفى " وثيقا حتى أواخر أيامه، ولا شك أن كاملا قد فقد فيه قريبا وصديقا عاش معه فترة طويلة من حياته . وكامل المقهور ـ لا شك ـ أنه قد قام بزيارة المنطقة في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات، في فترات محدودة، نظرا لظروف دراسته في البدايات ثم اهتمامه بعمله " المحاماة "، ثم انغماسه في العمل الرسمي الذي كلف به كوزير للنفط وسفير ومهتما بقضايا شائكة أخرى، ـ ولا شك ـ أنه سجل في ذاكرته الأحداث اليومية في " سوق الجمعة "، يوم أن كانت عبارة عن " سواني " و " آبار " و " طرق ترابية "، وناس بسطاء، وفلاحين مهرة، زارها مرات ومرات هو وإخوته أحمد ومحمود وفتحى، يؤدون واجب الزيارة لجدتهم لأمهم التى كانت تقيم في نفس المنطقة، ولا شك أنهم قد عبروا " سانية " خالتهم " حليمة " زوجة محمد الحصائرى، فلاحظ البئر والتوتة والبقرة والعجل والمجر والقنينة والجابية والميدة والساروت والممقس، والرشى والسميت والمعراض ... إلخ، ولاحظ حياة الفلاح اليومية بتفاصيلها الدقيقة، فجسدها في كثير من قصصه القصيرة، في كتاب 14 قصة من مدينتى، وفى كتاب حكايات من المدينة البيضاء، و الأمس المشنوق، حتـى حواراته كانت تعطى إنطباعا بأن الكاتب يكتب عن " سوق الجمعة " المكان الذى أحبه وعشقه وجسد تراثه فى قصصه . في قصة " السور " ضمن كتاب " 14 قصة من مدينتى "، جسـد لنا " السانية " فترة بيع الأراضى لضمها إلى " قاعدة الملاحة "، ومن يقرأ القصة يعيش حياة الناس الفقراء في ذلك الوقت ويحس بإنفعالاتهم الثرة التى كثيرا ما توقض ضمائرهم وتبث الحياة فيها، وهذه الأحاسيس الفياضة تؤكد أن كامل المقهور كان يعيش بينهم . التفاصيل الدقيقة عن " سوانى سوق الجمعة " كانت في قصة " دورى يا عورة " فى كتاب " حكايات من المدينة البيضاء "(2)، وسيدرك القارئ مدى دقة التفاصيل التى عاشها الكاتب بكل تأكيد، ولو لم يكن عاشها لما كتبها بهذه الدرجة من الدقة المتناهية . لكن قد يعترض الكثيرون على هذا الإسناد، إسناد قصص كامل المقهور على منطقة " سوق الجمعة " بالذات، ذلك أن معظم المناطق في الخمسينات والستينات كانت تعج بالآبار والسوانى، بل إن التعابير والمصطلحات الزراعية والفلاحية تكاد تكون واحدة، وبخاصة في واحة طرابلس التى تبدأ من المنشية وتنحدر لتصل إلى الشاطئ " الساحل " في سوق الجمعة وشط الهنشير وغيرها من الأماكن التى كانت تعج بما ذكره كامل المقهور في كتاباته . إلا أنه يمكننى أن أجزم، وهذا رأيى الخاص ، بأن " كامل المقهور " كان يقصــد " سوق الجمعة " وبالتحديد منطقة " النوفليين " التى كان يتردد عليها كثيرا سواء عند زيارته لجدته أو أخواله وخالته حليمة أو خالته " مريم " في منطقة " بن جابر " والتى كانت تعتبر بدايات " منطقة النوفليين " ، فأنا أكاد أراه الآن وهو قادم من الضهرة مقر إقامة أسرته مارا بزاوية الدهمانى فمنطقة بن جابر ثم طريق الملاحة أو طريق شارع الشط أو طريق المطمر، ثم هو يدخل من طريق العمروص أو " فم الكردون " متجها إلى بيت جدته وخاليه على ومحمد وخالته حليمة ، بما يعنى أنه من المؤكد أنه قد لاحظ عملية رفع المياه من الآبار المتناثرة هنا وهناك، ولاحظ كل مكونات " السوانى " التى تتشابه في هذه المنطقة، وهو من المؤكد أنه قد سجل حتى اللهجة المحلية المستعملة في هذه المنطقة . أما قصة " السور " فلا شك أنها تتحدث عن سور " الملاحة " أو قاعـــدة " هويلس " تلك التى كانت تجثم على أرض ليبيا، و لاشك أنه عايش الأحداث التى كانت تجرى هناك، الأخذ والرد، الطمع، الدسائس، المؤامرات، التخويف، فهو قد عاش تلك الفترة وأسهم في إيقاظ الرأى العام بالوسائل التى كانت متاحة له، لا أريد أن أستبق الأحداث فأقرر مالا أعرفه، ولكن قصة " السور " تؤكد هذا المنحى، فالأدوات التى يستعملها، والحوارات التى صاغها تؤكد أنه كان يعيش تلك الفترة بكل حواسه وأفكاره المناهضة للمحتل الغاصب وأصحاب الكراسى الذين باعوا الأرض بالمؤامرات والدسائس . لقد اعتبر كامل المقهور المكان كمقدس لديه، جسده فى قصصه، وترك للقارئ أن يحدد المكان الذى يقصده، دون أن يجبره على ادراك " مكان " محدد، ربما لغاية فى نفسه لم يفض بها، وإن كانت الشخوص التى حاورها أو حاورته أو الأماكن التى جعلها محور قصصه، تؤكد أنها شخوص قريبة منه، بل هى تمت إليه بصلة القربى، وهى أماكن و شخوص معروفة فى سوق الجمعة .
ـ كامل حسن المقهور تعريف :
ولد المرحوم عام 1935ف بطرابلس " الضهرة " وتلقى تعليمه الأول بها ، ثم إنتقل إلى مصر لدراسة للقانون حيث تحصل على درجة الليسانس من كلية الحقوق / جامعة القاهرة عام 1957 ، وفى هانيبال / أغسطس 1972 ف عين سفيرا بوزارة الخارجية ومثلا مقيما فى الأمم المتحدة . تولى عددا من المهام السياسية والدبلوماسية والشعبية منها : مستشار بالمحكمة العليا، أمين عام مشارك للإتحاد العربى الأفريقى، أمينا عاما للمكتب الشعبي العربى الليبى فى باريس والصين والأمم المتحدة، ووكيلا للجماهيرية بمحكمة العدل الدولية، أمينا للنفط، أمينا للمكتب الشعبى للإتصال الخارجى. وكان مندوب الجمهورية العربية الليبية لدى لجنة حقوق الإنسان. حصل على شهادة تقدير فى القصة القصيرة فى عيد العلم الأول بطرابلس عام 1970ف انتقل الى رحمة الله .

ليست هناك تعليقات: